نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3043
وفي التعبير: «قُلْ: يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا» التفاتة خاصة. فهو في الأصل: قل لعبادي الذين آمنوا.. قل لهم: اتقوا ربكم. ولكنه جعله يناديهم، لأن في النداء إعلانا وتنبيها. والرسول- صلّى الله عليه وسلّم- لا يقول لهم: «يا عِبادِ» فهم عباد الله. فهناك هذه الالتفاتة في أثناء تكليفه بتبليغهم أن يناديهم باسم الله. فالنداء في حقيقته من الله. وما محمد- صلّى الله عليه وسلّم- إلا مبلغ عنه للنداء.
«قُلْ: يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا. اتَّقُوا رَبَّكُمْ» ..
والتقوى هي تلك الحساسية في القلب، والتطلع إلى الله في حذر وخشية، وفي رجاء وطمع، ومراقبة غضبه ورضاه في توفز وإرهاف.. إنها تلك الصورة الوضيئة المشرقة، التي رسمتها الآية السابقة لذلك الصنف الخاشع القانت من عباد الله.
«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» ..
وما أجزل الجزاء! حسنة في الدنيا القصيرة الأيام الهزيلة المقام. تقابلها حسنة في الآخرة دار البقاء والدوام.
ولكنه فضل الله على هذا الإنسان. الذي يعرف منه ضعفه وعجزه وضآلة جهده. فيكرمه ويرعاه! «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» .
فلا يقعد بكم حب الأرض، وإلف المكان، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها، إذا ضاقت بكم في دينكم، وأعجزكم فيها الإحسان. فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان.
وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري، في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه، تنبئ عن مصدر هذا القرآن. فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به، العليم بخفاياه.
والله خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان: ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند الله بلا حساب:
«إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..
فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب، ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي، وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة. ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب.. فسبحان العليم بهذه القلوب، الخبير بمداخلها ومساربها، المطلع فيها على خفي الدبيب.